القائمة
تابعنا على
الآن
الإمام ابن حزم.. رئيس وزراء الأندلس توقع ضياعها وقدم مشروعاً فكرياً في 80 ألف صفحة
تاريخ النشر: 30 يوليو 2023 | الساعة: 11:19 صباحًا القسم: المشاهدات:
323 مشاهدة

“مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة (ت 150هـ/768م) فإنه لما ولِي قضاءَ القضاة أبو يوسف (ت 182هـ/298م) كانت القضاة من قِبَله، فكان لا يولّي قضاء البلاد -من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال إفريقية (= تونس)- إلا أصحابه المنتمين إلى مذهبه [الحنفي]؛ ومذهب مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) عندنا [بالأندلس]، فإن يحيى بن يحيى (الليثي ت 234هـ/848م) كان مكينًا عند السلطان مقبول القول في القضاء، فكان لا يلي قاضٍ في أقطارنا إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه”.

 

هذا النص الثمين -الذي يهديه الفقيه العظيم الإمام ابن حزم الظاهري الأندلسي (ت 456هـ/1065م) إلى مؤرخي حركة انتشار المذاهب والأفكار- يلفت أنظارنا إلى زاوية مهمة، وهي علاقة الانتشار المذهبي بقوة الدفع التي تطرحه بين طلاب المعارف وفئات المجتمع، والقوة المقصودة هنا ليست فحسْب السلطةَ السياسية التي تُصدر مرسوما عُلْوِيًّا فينصاع له الناس ولو مؤقتا، وإنما يُعنَى بها كذلك الامتيازات التي تتاح لرموز مذهب ما حينما تحوز مقاليد سلطة القضاء، حيث تسود تشريعاته ومن ثم تنتشر تعاليمه فيقتدي بها الناس.

 

صحيح أنه في الخلفية يقف الحاكم الذي عين القاضي، وهذا أمر موجود اليوم في أعرق الديمقراطيات، لكن الأهم من ذلك -في الواقع العملي- هو أن تنزيل الأحكام والتزام الناس بها بسلطة القضاء سبب محوري -وإن لم يكن وحيدا- في شيوع المذاهب وتكاثر دارسيها، وهو ذيوع يترسخ بفعل مصدر طبيعي شرعي ومقبول هو القضاء الإسلامي، وليس بمجرد وصاية فقهية من جهاز السلطة التنفيذية.

 

هذه الفكرة المحورية رصدها هذا الفقيه النَّظّار والوزير الأديب، ومن ثم فإنه كان يدري أن المنازلة بينه وبين خصومه من الفقهاء لن تكون عادلة ما دامت ثَمة رعاية سياسية تحوط المذهب المالكي المنافس لمذهبه هو وأصحابه من الظاهرية في الأندلس.

 

وقد يفهم صدور هذه الفكرة عن ابن حزم لا بوصفه أحد أعمق المفكرين إدراكا لتاريخ الأفكار والمذاهب والمِلَل والنِّحَل، ولكن لأنه كذلك كان -في لحظة ما من حياته- رجل دولة اقترب من قمة السلطة في بلاطها الأموي وسبر خبايا زوايا السلطة السياسية أيام تقلباتها الهائلة، وهو يدرك أن هذه السُّنة لن يفلت منها مذهبه الظاهري الذي لاقى بعض الذيوع بالأندلس لكنه سرعان ما خفت ثم اختفى، وربما يكون من أسباب ذلك الخفوت والاختفاء أن أتباعه حُرِموا -في الغالب- ميزة تقلُّد مناصب القضاء فاكتفوا بالتدريس والتأليف.

 

يُعدُّ الإمام ابن حزم المؤسسَ الأبرز للمذهب الظاهري في الأندلس، وتأسيس مذهب أو التمكين له حَدَث حضاري كبير، وكل مذهب يواكب سياقَه متسلحا بمقولاته وأدواته الملائمة لزمانه، وهذا ما ينطبق تماما على المذهب الظاهري بالأندلس. والحقيقة أن من يَفْصِل مشروع ابن حزم الإصلاحي والإبداعي عن أزمات أندلس زمانه السياسية المتمثَّـلة في تشرذم ممالكه، والعلمية المتجلية في هيمنة التقليد الفقهي؛ لن يتوصل إلى عمق هذا المشروع ومراميه البعيدة.

مشاركة
اقرأ ايضاً
© 2024 Taraf Iraqi | جميع الحقوق محفوظة
Created by Divwall Solutions