إسهام الزنوج في التاريخ الإسلامي.. فاوضوا الروم باسم الإسلام وقلبوا مزاج مصر العلمي والسياسي ومهّد الجاحظ لثورتهم بالعراق
تاريخ النشر: 16 أغسطس 2023 | الساعة: 10:34 صباحًا
القسم: المشاهدات: 268 مشاهدة
في عام 1368هـ/1948م التحق مواطن أميركي أسود اسمه جورج ماكلوين (ت 1388هـ/1968م) بجامعة أوكلاهوما في الولايات المتحدة الأميركية؛ فكان أولَ طالب من أصول أفريقية يلتحق بها! كانت قوانين الفصل العنصري تعزل تعليميا الطلابَ البيض عن السود، لكن ماكلوين ناضل حتى دخل هذه الجامعة التي خصصت له دورة مياه ومكانا منفردا في المطعم، وزاوية بعيدة في قاعة التدريس حتى لا يختلط بالطلاب البيض؛ وهو ما جعله يتصدر طليعة الرواد الذين ناهضوا التمييز اللوني في المعرفة والتعليم داخل المجتمع الأميركي.
لكن بعيدا عن ولاية أوكلاهوما وضيق التنفس المعرفي فيها، بل وحتى الوجودي في بلادها الذي عانى منه -بعد عقود- مواطنه وسميُّه الآخر جورج فلويد الذي قُتل اختناقا تحت ضغط ركبة شرطي أميركي أبيض في مايو/أيار 2020؛ نعود مئات السنين إلى “ولاية” مكة المكرمة التي كان وُلاتها “زمان بني أمية يأمرون [في] الحاجّ (= الحُجّاج) صائحا يصيح: ألّا يُفتي الناسَ إلا عطاءُ بن أبي رباح (ت 115هـ/734م)”؛ كما يقول المؤرخ الفاكهاني (ت 272هـ/885م) في كتابه ‘أخبار مكة‘.
لقد كان المفتي عطاء هذا عبدا أسود لامرأة من أهل مكة ومع ذلك نال لقب “سيد فقهاء أهل الحجاز”!! ويروي الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م) -في كتابه ‘الفقيه والمتفقه‘- أن هذا “الفقيه الأسود” جاءه الخليفة الأموي سيلمان بن عبد الملك (ت 95هـ/715م) ومعه ابناه؛ فأشاح عطاء بوجهه عنهم، “فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حوّل قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيْه: قُوما! فقاما، فقال: يا بني لا تَـنِيَا (= تُقصِّرا) في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلّنا بين يديْ هذا العبد الأسود”!!
إن هذه المفارقة البالغة الدلالة بين الموقفين السابقين -اللذين يفصل بينهما زهاء 1400 سنة- تكشف عن مقاربة الثقافة الإسلامية لقيمة المساواة الإنسانية، وتقنيات تذويب الفوارق التي طرحها الإسلام بين الأعراق والأجناس مع صيانة قيمة الاختلاف والتنوع إلى حد الاحتفاء، حيث لم يكن حضور السود وإسهامهم في الحضارة الإسلامية واقعا محسوسا فقط، بل صار منظَّرا ومسطّرا في أدبيات فريدة خُصِّصت لرصد أنماط وسمات هذا الحضور.
فقد نجح الإسلام ليس في الانقلاب على معيار السيادة في المجتمع العربي البدوي فقط، بل وعلى معايير التفاضل داخل الثقافات المحيطة مثل اليهودية والمسيحية واليونانية والفارسية؛ حتى بات فقيه من فئات يخضع أبناؤها للرق والعبودية ينفر من تعليم الملوك! وصارت معايير التفاضل التزكويةً تزاحم وتتقدم معايير التسيّد القبلي والمالي، وتحتل مواقع التأثير والتوجيه داخل المجتمع الإسلامي.
لقد مثلت “الطليعة السوداء” التأسيسية موقدا لأكبر اندفاعة للسود في التاريخ؛ فلم تعرف حضارة حضورا لهذا اللون الطيب الزكي مثلما حدث مع الإسلام، حيث سكنت القوى السوداء صميم الحضارة الإسلامية، وكان لفضلاء الصحابة السود -بجهادهم وعلمهم وأدبهم- تأثير كبير على جمهرة كبيرة من الأرقاء والموالي -من أجيال التابعين ومن بعدهم- لكي يكتسبوا وسائل السيادة الاجتماعية والثقافية والمعرفية؛ فقد كان العلم ميزانا مَرْضِيا داخل المجتمع المسلم الجديد، وسلّمًا حركيا تُتسوَّر به قلاع القيادة.
وهذه المقالة تتطرق لبعض أدوار السُّود وإسهاماتهم في التاريخ الإسلامي، وتحاول أن تتيح مداخل متعددة لرصد جوانب من تجارب 25 شخصية من أعلام السود اضطلعوا بأدوار علمية ونضالية وأدبية وسياسية، فأسهموا بذلك في دفع حركة المسلمين على صُعُد شتى وطوال قرون عديدة؛ مع تقييد رصد هذه الأدوار بحدود المنطقة العربية من المشرق الإسلامي التي كان السود فيها يمثلون “أقلية” يلفت تصدُّرها النظرَ ويثير الإعجاب.
اقرأ ايضاً