“أدب الروبوتات” هل يعد إبداعا حقيقيا أم تكتب الخوارزميات أنماطا مكررة؟
تاريخ النشر: 29 نوفمبر 2023 | الساعة: 12:59 مساءً
القسم: المشاهدات:
369 مشاهدة
أدى ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي سهلة الاستخدام والمتاحة على نطاق واسع إلى خلق نوع جديد من “الأدب الروبوتي”، وحاليا تقدم شركة أمازون أكثر من 200 كتاب من تأليف الروبوتات باستخدام برنامج (شات جي بي تي) كمؤلف أو مؤلف مشارك، وهذا الرقم في ازدياد كل يوم.
وتختلف أسباب لجوء عدد من “الكتّاب” أو حتى الناس العاديين لهذا النوع من الكتابة، ولكن لنتذكر أن عملية الكتابة عملية مضنية ومنهكة ومتعبة وتحتاج للكثير من الوقت والطاقة والخيال الخلاق، ما يثبط عزيمة كثير من البشر الذين يحلمون بكتابة قصيدة أو قصة أو تأليف كتاب مهما كان نوعه.
قدمت هذه الأدوات فرصة حقيقية لـ”أنصاف الكتّاب” وبعض الهواة كي ينتجوا كتبا خاصة بهم، ويضعوا عليها أسماءهم كمؤلفين بغض النظر عن مدى مساهمتهم في تأليف وإبداع هذه الكتب.
الذكاء الاصطناعي يعوّض الموهبة
ومن هؤلاء بريت شيكلر، وهو بائع بمنطقة روتشستر بمدينة نيويورك، يحب الأدب وكان دائما يحلم بتأليف كتاب ما، ووضع اسمه عليه كمؤلف، ولكن موهبته وقدراته وإمكانياته اللغوية والإبداعية لم تكن تساعده على ذلك.
أنشأ شيكلر كتابا إلكترونيا للأطفال مكونا من 30 صفحة في غضون ساعات باستخدام برنامج شات جي بي تي، والكتاب مدرج الآن في متجر “أمازون” لبيع الكتب مقابل 2.99 دولار، وعلى منصة “كيندل” بـ9.99 دولارات، ويهدف الكتاب إلى تعليم الأطفال كيفية توفير المال، والشخصية الرئيسية في القصة هي “سامي السنجاب” الذي يجمع الجوز ويستثمره.
وعلق شيكلر قائلا “بدت فكرة تأليف كتاب ممكنة أخيرا.. اعتقدت أنه يمكنني القيام بذلك”.
لم يضع شيكلر برنامج “شات جي بي تي” كمؤلف للكتاب على الغلاف الأمامي أو الخلفي، ولا تذكر صفحة المنتج أيضا اسم البرنامج، ولا النظام الأساسي الذي استخدمه لإنشاء الرسوم التوضيحية. بل وضع بكل بساطة اسمه كمؤلف للكتاب.
وفي الواقع، لا تتطلب سياسات أمازون الحالية من المؤلفين الكشف عن ذلك، حيث يسيطر عملاق التجارة الإلكترونية على نحو 80% من سوق الكتب الإلكترونية في العالم، مما يعني أن عددا كبيرا من القراء قد يجدون أنفسهم دون قصد يقرؤون الأعمال التي تم إنشاؤها بواسطة الحاسوب لأطفالهم، أو يناقشونها في مجموعات نوادي الكتاب دون أدنى فكرة عن مؤلف الكتاب الحقيقي حسب ما ذكرت مجلة “بس سي ماغ” في تقرير لها.
والأسئلة التي تطرح نفسها كثيرة، ولعل من أهمها: مدى أصالة هذه الكتب التي يؤلفها الذكاء الاصطناعي، وهل تمثل كتابة الذكاء الاصطناعي إبداعا حقيقيا أم هي مجرد خوارزميات تعيد إنتاج أنماط مكررة؟
معنى الإبداع
قبل استكشاف دور الذكاء الاصطناعي في العملية الإبداعية التي تسمى الكتابة، يتعين أولاً تحديد ما يعنيه الإبداع.
يتضمن مفهوم الإبداع المعقد والمتعدد الجوانب إنشاء أفكار جديدة وقيّمة، وتكوين منتجات أو حلول جديدة، ويعني ذلك الأصالة والمرونة والخيال الخلاق، والقدرة على تجاوز أنماط التفكير التقليدية، وابتكار شيء جديد ومدهش يثير الإلهام، ويجعل المتلقي يرى العالم بشكل جديد مختلف عما سبق. وفي مجال الكتابة، يتضمن الإبداع ترتيب الكلمات والأفكار والعواطف بشكل فريد لإنشاء عمل أصيل لم يوجد من قبل، حسب تعريف “موسوعة ستانفورد للفلسفة”.
لننظر مثلا إلى هذه الجملة الشعرية لمحمود درويش:
“حاصر حصارك لا مفر…
اضرب عدوك لا مفر
سقطت ذراعك فالتقطها
وسقطت قربك فالتقطني
واضرب عدوك بي
فأنت الآن.. حرّ”
إن المتأمل لجملة “حاصر حصارك” مثلا يدرك الأصالة مباشرة في النص الشعري، فكيف لك أن تحاصر حصارك؟ هذا يستوجب عليك كقارئ أن تسترسل قليلا في خيالك لتفهم كيف يمكنك أن تحاصر الحصار المضروب حولك.
في هذه الجملة أيضا مرونة وخيال خلاق من الصعب على إنسان عادي مثل “البائع” شيكلر أو برنامج “شات جي بي تي” أن يأتي به، وكي يعطيك نتيجة قريبة عليك أن تلقم البرنامج بمعنى الحصار، وأن تضرب له أمثلة عن الحصار، وأن تزوده بمعطيات دقيقة عن كيفية حدوث الحصار، وطرق الخلاص منه، وبعد ذلك عليك أن ترى النتيجة.
وقام كاتب هذه السطور بالفعل بهذه المحاولة لتلقيم البرنامج بكل المعلومات التي وجدها عن “الحصار”، فضلا عن المعلومات الموجودة لديه أصلا، ثم طلب منه أن يكتب مقطعا شعريا عن فك الحصار، وهذه هي النتيجة:
“كل يوم هو نقطة فارقة في المعركة
ينبت الصمود من جذور العزيمة،
تلتقط الأيدي بعضها بعضا بإخاء،
تتحد الأمم لرفع الحصار بصفاء.
على جدران الزمن يكتب التاريخ حكاية
قصة شعب ينهض بعزيمة واحتراق
يُحطم القيود وينسج الحرية خيوطها
تعلو الأصوات كالأمواج في البحر الراق”.
وللقارئ أن يدرك ببساطة مدى الفارق بين النص الشعري الأصيل ومحاولات الخوارزميات لكتابة ما يشبه الشعر.
الخوارزميات والأصالة
تعتمد كتابة الذكاء الاصطناعي على خوارزميات تعالج كميات هائلة من البيانات لتعلم الأنماط والهياكل الموجودة في النصوص المولدة بواسطة الإنسان، وتُمكن هذه الخوارزميات، التي تعتمد غالبا على الشبكات العصبية، النماذج من إنتاج نص يشبه بشكل كبير الأسلوب والهيكل الذي يظهر في بيانات التدريب التي تم تلقيمها بها وفق ما ذكرت منصة “إيه آي كونتنتفاي”.
ويجادل النقاد في أن هذه العملية تؤدي إلى إعادة إنتاج لأنماط موجودة بالفعل فحسب -وهم محقون في ذلك- مما يجعل كتابة الذكاء الاصطناعي تبدو بلا إبداع حقيقي. وأعتقد أن النتيجة في المثال السابق واضحة، فأنظمة الذكاء الاصطناعي تفتقر إلى الإبداع والأصالة، وتعاني بشكل واضح عندما يتعلق الأمر بإنشاء محتوى فريد ومبدع حقًا.
صحيح أن هذه الأنظمة قادرة على تحليل كمّ هائل من البيانات التي تمت تغذيتها بها، وقادرة على إنتاج جمل متماسكة، إلا أنها تفتقر إلى القدرة التخيلية التي يمتلكها البشر للتفكير خارج الصندوق، وخلق شيء جديد ومبتكر تماما مثل جملة “حاصر حصارك”.
كما تفتقر الكتابة الناتجة عن هذه البرامج إلى الذكاء العاطفي لفهم المشاعر والتعبير عنها بشكل فعال، وتفسير المشاعر الإنسانية والفروق الثقافية الدقيقة المعقدة التي تؤثر على كتابتنا، مما يؤدي إلى إنتاج محتوى سطحي خالٍ من العواطف، أو القدرة الحقيقية على التعاطف، أو فهم مشاعر البشر المختلفة والمتباينة ودمجها في المحتوى المكتوب.
بالإضافة إلى ذلك، تكافح نماذج الذكاء الاصطناعي لفهم الأعراف المجتمعية، والسياقات الثقافية والتاريخية المعقدة، والفروق الدقيقة التي تشكل عصب التواصل والاجتماع البشري، مما يجعل من الصعب على هذا الذكاء إنتاج محتوى حساس ثقافيا، ومدرك للسياق الذي يدور فيه.
القدرة على ابتكار أفكار وصور فريدة
يتمتع الكتّاب البشريون بالقدرة على توليد أفكار جديدة ومبتكرة قد يواجه الذكاء الاصطناعي صعوبة في التعامل معها أو تفسيرها. لنتأمل مثلا قول المتنبي:
وهَبْني قُلتُ: هذا الصّبْحُ لَيْلٌ.. أيَعْمَى العالمُونَ عَنِ الضّياءِ؟
كيف سيفهم الذكاء الاصطناعي أن الصبح ليل، وكل البيانات والمعلومات التي تمت تغذيته به توضح الفروق الدقيقة بين الليل والصباح؟
إن هذه القدرة لدى البشر على ابتكار معان جديدة هي ما يجعل عملهم متميزًا عن المحتوى العام الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي، هذا فضلا عن فهم السياق العاطفي والنفسي الذي جعل من الصباح ليلا مدلهما في عقل وفكر الشاعر.
وهناك نقطة أخرى مهمة، وهي قدرة الإبداع البشري على استخدام اللغة كشكل فني، من خلال استخدامهم للاستعارات والكنايات واللغة الشعرية لإثارة المشاعر وإنشاء صور حية في ذهن القارئ. هذه اللمسة الفنية هي نتاج للخيال البشري ولا يمكن للذكاء الاصطناعي تكرارها. هل يمكن للذكاء الاصطناعي تأليف بيت شعر مثل:
مِكَرٍّ مفرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معًا.. كجلمودِ صخْر حطه السيل من علِ
إن مثل هذه القدرة على التشبيه والاستعارة وابتكار الصور الشعرية الفريدة هو ما يميز الإبداع البشري، وهو شيء من الصعب جدا تقليده، ناهيك عن ابتكاره.
النموذج التعاوني.. كيف يمكن للكتّاب الاستفادة من إمكانيات الذكاء الاصطناعي؟
يعتبر السؤال حول ما إذا كانت كتابة الذكاء الاصطناعي تمثل إبداعا حقيقيا أم أنها مجرد خوارزميات تكرر أنماطا كتابية موجودة سابقا، مسألة معقدة ومتعددة الأوجه. يكمن التناقض في التوازن بين قدرة الخوارزميات على تكرار الأنماط التي يتم تغذيتها بها، وقدرتها الهائلة على تحليل البيانات، وجمع المعلومات بسرعة فائقة، وبين إمكانية هذا الذكاء في المساهمة في الإبداع الفعلي.
وكما رأينا، فإن الإبداع الفعلي عملية مختلفة تماما عن تكرار الأنماط وتحليل البيانات، وهنا يبرز نموذج آخر، هو النموذج التعاوني، حيث يستطيع الكتّاب الاستفادة من الإمكانيات الضخمة التي يمتلكها الذكاء الاصطناعي في عملية الكتابة، من خلال قدرته على جمع وتحليل كمّ هائل من البيانات في وقت قياسي، وفق ما ذكرت منصة “ديجيتال كومونز التابعة لجامعة ليندن وود” الأميركية.
اقرأ ايضاً